جائحة كوفيد-19 ليست الوباء الأول في العالم الذي فرض مجموعة من التغيرات على طريقة عيشنا، حيث ساهمت العديد من الأمراض المعدية في السابق في تحويل آليات التخطيط العمراني.

فقد شهدت دول أوروبا بعد انتشار وباء الطاعون في القرن الرابع عشر تحويل مجموعة من الساحات العامة الضيقة إلى ساحات كبيرة واسعة مدمجة مع الطبيعة، وشهدت لندن في القرن التاسع عشر بعد تفشي مرض الكوليرا في جميع أنحائها إجراء بعض التحسينات على البنية التحتية المتعلقة بإدارة المياه، كما قام السكان في مختلف أرجاء العالم بتجنب طرق المواصلات العامة الضيقة بعد انتشار الإنفلونزا الإسبانية ولجأوا إلى الاستعانة بالطرق غير المزدحمة.

نشأت الممارسات المتبعة في التصميم الهندسي والعمراني الشائعة في يومنا هذا عن ممارسات مماثلة تم اتخاذها على مر التاريخ لحماية صحة السكان وضمان حياة نظيفة خالية من الأمراض. وفي هذا الصدد، اتجهت أنظار الباحثين إلى التركيز على السكان وحمايتهم من الأوبئة.

يجب على المدن أن تدرك آلية الموازنة ما بين المتطلبات المتعارضة المرتبطة بالتباعد الاجتماعي والمحافظة على الاقتصاد وضمان جودة الحياة للأفراد

– خالد العوضي

ويوضح فريق بحثي من جامعة خليفة أن عنصري سهولة الوصول وإمكانية المشي لدى سكان المناطق الحضرية هما في غاية الأهمية للتصدي للجوائح، حيث نشر الفريق نتائج الدراسة في المجلة الدولية الرائدة “ساستينبل سيتيز آند سوسايتي” التي ذكر فيها أنه يمكن تحقيق عنصري سهولة الوصول وإمكانية المشي لدى سكان المناطق الحضرية إذا تم الدمج المناسب ما بين الهيكل والتصميم.

وأكد الدكتور خالد العوضي، الأستاذ المشارك في قسم هندسة البنية التحتية المدنية، على أن الجوائح القادمة مستقبلًا قد تفرض مزيدًا من الإغلاقات التامة وهنا تظهر الحاجة الماسة للمساحات المفتوحة الكبيرة.

وقال الدكتور خالد: “يجب على المدن أن تدرك آلية الموازنة ما بين المتطلبات المتعارضة المرتبطة بالتباعد الاجتماعي والمحافظة على الاقتصاد وضمان جودة الحياة للأفراد، لأنها ساهمت جميعها في الحد من التركيز على الكثافة السكانية. وفي هذا السياق، نرى أنه لابد من تحقيق التوازن في مستويات الكثافة السكانية من خلال تصميم المناطق السكنية من خلال تحقيق التوازن بين القضايا البيئية وجودة حياة الأفراد”.

تأثير غربي كبير

تقتصر الجهود المبذولة لإعادة تحديث طرق المشاة وتطويرها على مراكز المدن فقط على الرغم من أن أغلبية السكان لا يزالون يفضلون الإقامة في المناطق السكنية المحيطة. ففي دول مجلس التعاون الخليجي، وفي دولة الإمارات على وجه الخصوص يعتبر التوسع العمراني في المناطق المحيطة بمراكز المدن أمرًا سائدًا، حيث تشكل نسبة العمران في تلك المناطق السكنية في أبوظبي أكثر من 50% وفي دبي تصل النسبة إلى 40%.

وأشار الباحثون إلى ضرورة إعادة النظر في تصميم المناطق السكنية المحيطة بالمدن الرئيسة بدلًا من تجاهلها، لاعتبارها مؤشرات رئيسة للتطوير الحضري. وتتضمن دراسة الفريق رسم الخرائط المورفولوجية وتحليل منظومة الطرق الحضرية بهدف تطوير المناطق الحضرية مستقبلًا، حيث ركز الباحثون على الأحياء السكنية في أبوظبي ودبي من خلال دراسة المخططات الهيكلية والعمرانية في المدينتين المتشابهتين لنماذج الأحياء السكنية الشائعة في المدن الغربية.

أضاف الدكتور خالد: “تحظى المدينتان بسجل كبير في مجال دعوة الشركات الاستشارية وتوظيفها والمهندسين المعماريين الأجانب الذين حصلوا جميعاً على تدريبهم في دول غربية. ولهذا، نجد أن الشبكات والمخططات الهندسية التي تشكل مجموعة متنوعة من الأحياء في أبوظبي ودبي هي نفسها المطبقة في تخطيط المدن في جميع أنحاء العالم.”

نجد أن الشبكات والمخططات الهندسية التي تشكل مجموعة متنوعة من الأحياء في أبوظبي ودبي هي نفسها المطبقة في تخطيط المدن في جميع أنحاء العالم

– خالد العوضي

كانت المساكن المنفصلة التي تكفي أسرة واحدة تشهد استحسانًا كبيرًا من قبل السكان وكانت تمثل الشكل الأساسي للضواحي في جميع أنحاء العالم ورمزًا للحلم الأمريكي، وفي بعض الأحيان كانت تلقى الذم كبيئة يرثى لها. لكن فريق جامعة خليفة يرى بأنه لا ينبغي تصور الضواحي على أنها تجمعات سكنية مترامية الأطراف ومنخفضة الكثافة فقط.

وقال الدكتور خالد: “لا يمكن التغاضي عن إمكانية تصميم المناطق العمرانية في أشكال مختلفة ومستويات كثافة متفاوتة، فعلى سبيل المثال يمكن تصميم المناطق السكنية الجديدة بخصائص معينة كتصميم أنظمة الطرق بأسلوب متداخل بدلًا من شبكات الطرق المجزأة والعشوائية، كما تلعب سهولة الوصول للمكان في المناطق السكنية دورًا محوريًا في المناطق الحضرية المنظمة لأن السكان يفضلون المشي وركوب الدراجات الهوائية في المنطقة السكنية المحلية التي تتميز بسهولة الوصول وقصر المسافات من نقطة لأخرى”.

زيادة سهولة الحركة والوصول

يعتبر عنصرا إمكانية الحركة وإمكانية الوصول أمرين متلازمين، حيث يمكن تعريف إمكانية الحركة ببعد المسافة التي يمكن أن يقطعها الفرد في وقت معين، أما إمكانية الوصول فتعني مدى سهولة وصول الفرد للمكان. وقد تمكن الباحثون من إثبات أن عنصر إمكانية الوصول له دور كبير في التأثير على نوعية العيش الحضري وتوزيع الكثافة السكانية والصحة العامة وإمكانية الحركة والتنقل.

وتوصل الباحثون، عند مقارنة أبوظبي ودبي، إلى أن الوصول إلى دبي أكثر سهولة بشكل عام نتيجة ربط شبكات الطرق مع الطرقات الضيقة بين المباني.

وقال الدكتور خالد: “يعتبر المشي داخل الأحياء السكنية للأغراض الترفيهية واللياقة البدنية وغيرها أمرًا ضروريًا لا يمكن الاستغناء عنه في فترة ما بعد الجائحة. وقد أثارت جائحة كوفيد-19 بعض المواضيع القديمة من جديد والتي تتعلق بالتخطيط الحضري، حيث أن هناك إجماع بشأن الحاجة إلى وجود أحياء سكنية يمكن المشي فيها في المدن في فترة ما بعد الجائحة، كما يطمح الأفراد إلى سهولة الوصول إلى الأماكن المفتوحة والحدائق العامة والوجهات الأخرى لتلبية احتياجاتهم اليومية.

وبذلك، يمكن القول بأن إعادة تصميم الضواحي بالاستعانة ببنية تحتية مناسبة يسهل استفادة قاطني المنطقة منها والوصول إليها، له أثر فعال في توفير خيار سكني ملائم للسكان في فترة ما بعد الجائحة”.

انضم لقائمتنا البريدية

احصل على آخر المقالات والأخبار والتحديثات الأخرى من مجلة
مراجعة جامعة خليفة للعلوم والتكنولوجيا