يقدم كل من الخشب والجاذبية والرمل وغيرهم حلولًا ممكنة›››
يساهم جيل من الأدوية، تسمى الأجسام المضادة وحيدة المنشأ، في تغيير طبيعة علاج الأمراض من خلال استهداف العوامل المسببة للمرض وتحفيز الخلايا المناعية. وفي هذا السياق، قد يكشف استخدام ظروفٍ مشابهة للفضاء عند إجراء المزيد من البحوث، عن طرق لجعل الأدوية أكثر تركيزًا وأسهل في الإدارة.
تُمثّل الأجسام المضادة وحيدة المنشأ حوالي ثلث العلاجات المعتمدة على البروتين، وغالبًا ما تُستخدم لعلاج السرطان والالتهابات، وتُعرف بقدرتها على استهداف بروتين معين لمسببات الأمراض ومنعه من غزو المزيد من الخلايا. ويعني ذلك أن العلاج مصمم بشكل خاص لذلك المرض، إلّا أن المشكلة تكمن في حاجة المرضى إلى الحصول على هذه الأدوية بكميات كبيرة على مدى فترات طويلة من الزمن.
يُعتبر حجم البروتينات صغيرًا جدًا حيث لا يمكن دراستها تحت المجهر. لذلك، يساهم تحويلها إلى بلورات في تعزيز فهم الباحثين لبنيتها ثلاثية الأبعاد على نحو أفضل، كما يكشف تركيبها عن كيفية عمل البروتين وكيف يؤثر في سيناريوهات الأمراض، وبالتالي سنتمكن بعد فهم ذلك من تطوير أدوية تتشابك مع البروتين وتحارب المرض.
تُعتبر البروتينات في حد ذاتها أهدافًا دوائية، فضلًا عن أنها فئة مهمة من العلاجات، كما تحتاج شركات تصميم الأدوية إلى هياكل بروتينية عالية الدقة لتصميم الأدوية المناسبة.
وهنا، يأتي دور الجاذبية الصغرى.
يمكن أن تمنع جاذبية الأرض نمو البلورات ونوعيتها من خلال التأثير على كيفية وضع الجزيئات نفسها على السطح الخارجي للبلورة، وهذا يجعل الفضاء أو البيئة المشابهة له، مثالية لهذا النوع من البحوث.
عملية متداخلة
قام ديفيد شيهان، وهو أستاذ الكيمياء الحيوية في جامعة خليفة، بعمليات بلورة البروتينات لمدة 12 عامًا، حيث تنتظر بروتيناته وصول غُرف التفريغ التي تُحاكي الجاذبية الصُغرى، بالتعاون مع سين شان مين سواي من قسم الطيران والفضاء. قد يبدو تحويل البروتينات إلى بلورات وكأنه خدعة سحرية، إلا أن العملية معقدة للغاية، ويمكن أن تُعزى العديد من الانتصارات في عمليات البلورة الناجحة إلى عامل الوقت والصبر والحظ.

ووفــقًــا لـديــفــيــد، يُنقّــى البــروتــيــن ويُفصــل عــن أيّ شــيء قــد يــمــنــع التبــلــور كالمــواد الدهــنــيــة فــي الخـــلايا، كمــا يـتـم الحفــاظ علـى مســتوى الرقــم الهــيــدروجــيــنــي لبيــئــة نــمــوّ مثــاليــة، ويــمكــن إضافــة المــلح لزيــادة القــوة الأيــونــيــة وتــركيــز المحلــول.
تُضــاف مــرســبــات أخــرى مثــل البــولــي إيــثيــليــن غــلايــكــول أو المــذيــبــات العــضــويــة، والتــي تُقــلّــل مــن ذوبــان البــروتــيــن. ومــن ثــمّ، يُتــم التــلاعــب بالظــروف بعــدّة طُــرق، مثــل ضبــط درجــة الحــرارة أو التعــرّض للجــاذبــيــة.
قال ديفيد في حديثه مع مجلة جامعة خليفة للعلوم والتكنولوجيا: “يُشكّل دمج المواد الكيميائية المضافة ودرجة الحموضة حالة معينة. وتنتج البلورات عن معظم البروتينات في حالات قليلة جدًا، لذلك يُعتبر من الضروري فحص آلاف الحالات للعثور على كمية البروتين القليلة التي ستنتج بلورات قابلة للاستخدام.
لذلك، يمكن القول أن الفكرة الرئيسة هنا تكمن في الانتظار، حيث يمكن أن تتشكل البلورات خلال أسبوع أو عام وقد لا تتشكل على الإطلاق.
أضاف ديفيد أن الباحثين يقضون معظم وقتهم في المراقبة وانتظار الحصول على بلورة، إلّا أن معظمهم لن يراها: “عندما تظهر البلورة وإن ظهرت، فهذا يعني بأنك حصلت على مشروع.”
وفي دراسته، استجابت البلورات جيدًا لإضافة الجسيمات النانوية وحصل الفريق البحثي على 15 بلورة من لوحة مكونة من 16 بروتينًا تمت دراسته، علمًا بأن معظم هذه الأنواع من التجارب قد تنتهي عادةً بالحصول على بلورة واحدة أو اثنتين من بين آلاف التجارب. وقال: “وجدنا صيغة واحدة تتميز بفعالية أفضل من غيرها، واستعنا بتلك الجسيمات النانوية في حوالي 200 حالة.”
أكد ديفيد أن ذلك يُعد أمرًا غير مسبوق وأنه كان يتوقع هذا الإنجاز المتميز.
رحلة إلى الجاذبية الصغرى
يتمتع المشروع بتاريخ حافل.
طوّر ديفيد أول بلورة بروتينية مشبعة بالجسيمات النانوية منذ أكثر من عقد من الزمن نتيجة لفكرة كانت قيد الدراسة وثلاجة مليئة بالبروتينات المتاحة وطالب يبحث عن مشروع وصديق قادر على الوصول إلى المسرع الدوراني التزامني أو السنكروترون، وهو آلة تستخدم الكهرباء لإنشاء حزم أشعة سينية مكثفة لدراسة الخواص الكيميائية والهيكلية للمادة.
أجرى الطـالب تجربة باستخــدام جسيمين نـانـويين، مختلفيـن عن اللذيْن استخدمهما في المشــروع الأخيـر، وقـال في هذا الصـدد: “تطـورت البلــورات بسـرعة كبيـرة وبشكـل أكبـر حجـمًا بوجـود جسيـم نانـوي، حيث نجـح ذلك مع كـلا الجسيـميـن النـانـويين.”
تمت محـاذاة النجـوم (البلـورات بالأحرى) في خـط مستقيـم ليـقوم كل من ديفيد وطالبه بنقـل البروتيـنات إلى صديـق متخصص في علـم البلـورات في دبلن، الذي قرر نقلـها إلى المسـرع الـدوراني التـزامني (السنكروترون) في بـاريـس.
يبلغ حجم المسـرع الدوراني التزامني حجم ملعـب كرة قدم تقريبًا، ويُعد وسيـلة مثاليـة لتحـديـد التركيب الذري ثلاثـي الأبعــاد للبروتـيـن. قال ديفيـد في هذا السيـاق: “يُولّد المسرّع أشعـة سيـنيـة مكثفـة للغـاية تمـر عبر بلورة بروتينية وتنتشر بواسطة إلكترونات البـروتين، حيث تدور البلورة خلال العملية وينتج نمط مبعثر آخر، فتُمكّن تلك الأنمـاط من حسـاب بنية الذرة”.

التركيز على البروتينات
لكن لماذا نركز بشدة على البروتينات؟ لِمَ لا نستعيض بجزيئات أخرى؟
تضطلع البروتينات بدور أساسي في معظم الأنظمة الحيوية، كما أنها مسؤولة عن معظم الوظائف الخلوية، كشكل الخلايا وتصميمها الداخلي وإنتاجها وتنظيفها وصيانتها العامة وتواصلها أيضًا، وهذا ما يجعلها العنصر النشط في الخلية. ووفقًا لديفيد، فإن ذلك يجعلهم محط اهتمام لتطوير الأدوية المستهدفة.
يعتمد أكثر من 130 علاج على البروتين في السوق، وتهدف الخطوة التالية إلى تحسينها.
تتطلب الأدوية الحالية لأمراض كالسرطان على سبيل المثال من المرضى تناولها لفترات طويلة. حيث يضطر المرضى إلى الجلوس في العيادة لساعات في كل مرة، للحصول على الأدوية عبر الوريد لضمان حصولهم على التركيز الصحيح من العلاج. يمكن أن تستمر هذه العلاجات لعدة أشهر أو سنوات. تخيل لو كان بإمكانهم بدلًا من كل ذلك، الحصول على حقنة بسيطة في العيادة.
عندما تظهر البلورة وإن ظهرت، فهذا يعني بأنك حصلت على مشروع.
– ديفيد شيهان، أستاذ الكيمياء الحيوية في جامعة خليفة
يعتمد هذا النوع من تطوير الأدوية على بحوث كتلك التي قام بها ديفيد وفريقه. يُعد بروتين الفورين مثلًا، هدفًا محتملًا للأدوية المضادة للفيروسات لعلاج فيروس الكوفيد-19.
قد يعني ذلك مشروعًا تجاريًا، بالإضافة إلى كونه مساهمة في العلوم ومكافحة الأمراض وتحسين رعاية المرضى.
قال ديفيد: “يمكن أن يكون هذا مشروعًا كبيرًا جدًا، يمكنني تصور خيارين للتسويق، أحدهما هو تسويق هذه الشاشة كشاشة متبلورة والآخر هو شركة ناشئة تقدم هذه الفكرة كخدمة لشركات صناعة الأدوية وشركات الأدوية الحيوية والعلماء الراغبين في هيكلة البروتين الذي يملكونه في كافّة أنحاء العالم.”
يزيد معدل النجاح الحالي للفريق عن 90%، الأمر الذي يحمل آمالًا واعدة.
جدير بالذكر أن ديفيد وسلمى سلطانة سيد، واحدة من الباحثين في فريقه، سجّلا براءة اختراع لشاشتهما في الولايات المتحدة الأمريكية ودولة الإمارات وأوروبا، كما يبحثون في إمكانية إنشاء شركة ناشئة تسمى “بروسكرينيكس”، بعد دمج عدد كبير من البروتينات الإضافية في بحوثهم وتغيير الجسيمات النانوية باستخدام شاشتهم الحالية. سيؤدي ذلك إلى خلق مشكلة أكثر صعوبة، ولكنّه يختبر الطريقة ضد تحديات أقوى ونأمل أن يُسهم في تحسين معدل النجاح. إذا لم تستطِع أخذ بروتيناتك إلى الفضاء، أحضر الفضاء إلى بروتيناتك.
يعتمد النجاح أيضًا على الجاذبية الصغرى، لذلك سيستخدم فريق ديفيد غرف محاكاة الفضاء التي تحاكي هذه الظروف، ما يساعد على تسريع عملية التبلور والحصول على بلورات عالية الجودة.
يأمل الفريق أيضًا في الحصول على روبوت يساعد في زيادة عدد الحالات من 160 إلى حوالي 1000 وزيادة العدد الذي يمكنهم اختباره يوميًا. يقول ديفيد في هذا الصدد: “سيمثّل وصولنا إلى تلك المرحلة، خطوة تحولية وإنجازًا هامًا”.
كل ما يحتاجون إليه الآن هم المستثمرين المناسبين.
يُتوقع أن تصل القيمة السوقية العالمية للعلاجات البروتينية إلى 566.6 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2030، مقارنة بقيمة بلغ قدرها 283.64 مليار دولار أمريكي في عام 2020، وفقًا لشركة “ألايد ماركِت ريسيرتش”.